يعتبر الفنان والشاعر والناقد التشكيلي طلال معلاّ (من مواليد سوريا 1952) ركيزة من ركائز الفن في عالمنا العربي. إلى كونه شخصية موسوعية، فهو يمتاز بعمق ثقافي ومعرفي ومواكبة هائلة للنتاج التشكيلي العربي، وهو أول من أشار في مؤلفاته الى منقلبات الفن العربي ومنعطفاته من الحداثة الى المعاصرة، وحلّل مفاعيل التغييرات الحاسمة التي طرأت على مشهدية التشكيل العربي، من موقعه كمسؤول عن إدارة أنشطة بينالي الشارقة الدولي طيلة عقود خلت.
تولى رئاسة تحرير مجلة “الرافد” ثم مجلة “الصورة”، أصدر العديد من المؤلفات النقدية والدراسات الجمالية، أقام معارض لأعماله الفنية في عواصم عربية وعالمية، نال عدة جوائز تقديرية وهو خبير معتمد لدى منظمة اليونيسكو في التراث الثقافي.
كتاب “لغز الفن- قراءة اختبارية في التشكيل العربي” هو جديد الباحث طلال معلاّ، الذي صدر حديثاً عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع (عمان- الاردن)، وهو بمثابة بحث اركيولوجيّ، شاعريّ في لغته وتأملاته، لمتغيرات الفنون البصرية ومحمولاتها.
وهو من الدراسات النظرية القليلة التي تقف على تحليل الظروف التي أدت الى انزياحات الوسائط الفنية التقليدية والتحولات التي طرأت على هيكل الموروث الجمالي العربي.
ولعلّ ميزة قراءة طلال معلاّ الاختبارية، انها تراكمية تتمحور حول عدة عناوين وهي تمزج الأزمنة بعضها ببعض، تذهب من هندسة الوهم في عصر الصورة الى القيم الجمالية في التراث العربي والاسلامي ومن التاريخ المعرفي الغربي الى التراث الشرقي ومن الحداثيّ الى ما بعد الحداثيّ والمعاصرة، ليقدم قراءة عميقة من مقترب شخصي نابع من تجاربه وثقافته ومتابعاته الفلسفية.
هكذا تغدو نصوصه النقدية بمثابة قراءة في الزمن العربي نفسه بيقينه وتحولاته وأسئلته ومجهولاته، لا تكفّ عن طرح الاسئلة وإن لم تتوفر لها اجوبة.
في هذا العصر الذي يتضخم فيه أعداد الفنانين التشكيليين من أنحاء العالم العربي (المقيمين والمهاجرين)، ويقلّ فيه عدد الخبراء الأصيلين والمنظّرين، ينبري الدور الذي يلعبه طلال معلاّ كباحث ومنظّر في استيطيقا علم الجمال، في إثارة النقاش حول قضايا مفصلية في هذه الآونة، تمرّ لزاماً بمناطق النفوذ في العالم الغربي كما تمرّ في بؤر التوتر السياسي والجغرافي إثر الحروب التي شهدتها المنطقة العربية وتداعياتها الراهنة على المنتوج الفني وتداولاته في السوق الفنية.
وإذا كانت المقاربات الفلسفية في الغرب لم تفصل الحقبة الراهنة في الفن عن خطاب نقد الحداثة، في ظلّ سقوط السرديات الكبرى (اي الايديولوجيات)، بحسب تعريف الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار، فإنّ طلال معلاّ ينبّه الى ضرورة إعادة النظر في الكثير من الاحكام والاتهامات والمفاهيم الخاطئة والملتبسة التي سيطرت على الكتابات النقدية في تقويم الحداثة العربية (خصوصاً مسائل الهوية والتراث والتبعية للغرب) وتحليل توجهات الجيل الجديد واستخدامه للميديا الجديدة في الخطاب البصري.
المنطق المغاير للتبعية
يتطرق معلاّ الى مسألة الانقياد في اتهام الانتاج العربي بالتبعية للغرب (كما حدث في الاتهام بالتقليد المباشر للانطباعية الفرنسية)، وهو تعميم من شأنه أن يمحو أثر المكان على النفس وما يتركه في المخيلة، وإذا جــاءت مثــل هــذه الفنــون في الغــرب لتفضــح العيــون المزيفــة للمجتمــع الــذي بــدأت تطاولــه النكســات الجماليــة والثقافيــة، فــإن الفنــون العربيــة كانــت آخــذة بالتوجــه والبحــث عــن الشــخصية الجماليــة الذاتيــة، وإعــلاء ســؤال الهويــة المتحــرك.
كما تــردد الحديــث كثيــراً في الكتابــات التشــكيلية عــن قطيعــة بـين المحامــل التشــكيلية العربيــة وإرثهــا الجمــالي والفنــي، واعتبــرت بشــكل أو بآخــر تقليــداً جامــداً للتيــارات الفنيــة الغربيــة، وبخاصــة فنــون التصويــر المتنوعــة.
إلاّ أن كتابــات موازيــة حاولــت الاســتفادة مــن تدعيــم النهــوض الوطنــي والقومــي، بإحيــاء العلاقــة فيمــا بيــن الحــاضر بمعطياتــه الجماليــة والماضي مما ســاعد عـلـى تمتـيـن العلاقــة مع التاريــخ، ووعــي هــذه العلاقــة عــلى أســاس مــن التــوازن الجـمـالي الــذي اعتمــد غايــاتٍ جماليــة مســتنبطة مــن الفنــون التــي دعاهــا بعضهــم فنونــا ً وظيفيــة.
ولا ننسى أن الفنــون الشــعبية والعفويــة والفطريــة قد أســهمت بإحيــاء الارتبــاط بالمــوروث والـتـراث مــن مختلــف جوانــب العلاقــة بخصائــص ومميــزات المبــدِع الشــعبي، ســواء في مـصـر أو ســوريا أو الخليــج العــربي أو بــلاد المغــرب العــربي. وباختــلاف المصــادر بــدأت تتشــكل ملامــح لفنــون عربيــة، برغــم قطريــة المنشــأ التــي لم تشــكل عائقــاً حتــى اليــوم أمــام تطــور الفنــون العربيــة.
عدمية ما بعد الحداثة
في اغتراب التشكيل العربي، من يتخلى عن الآخر الفنّ أم الانسان؟ عن هذا السؤال يقول معلاّ :”مــرة أخــرى تطــرح مســألة الاعــتراف بالفنــون البصريــة والتشــكيلية داخــل البنيــة الفكريــة العربيــة، والبحــث عــن شرعيتها مســألة لا تخــرج عــن اهتمامــات المبــدع العــربي في ســعيه المســتمرّ لإطــلاق تداولهــا.
وإذا كانــت الفنــون- التــي باتــت تقليديــة في أحكام اليــوم- لم تســتطع أن تحقــق هــذا الحضــور فــإنّ الفنــون الجديــدة بأســئلتها المتنوعــة مــا زالــت تحمــل هــذا الهــم في مجتمعــات تعــاني صراعــات حــول الوجــود والسياســة والثقافــة، وحــول عــدم اســتيعاب معــاني الاتصــال المعــرفي الــذي تســهم فيــه مؤسســات المجتمــع الجديــد ومنهــا المجتمعــات الفضائيــة والفراغيــة”.
تحدث معلاّ عن مظاهر العدمية التي تحملها مرحلة ما بعد الحداثة، وعن الازمات الداخلية للحركة التشكيلية العربية التي أدت الى هجــرات باتجــاه الغــرب (هجــرة بالجســد وأخــرى بالمفهــوم)، في الوقــت الــذي آلــت إليــه الحِرَفيــة التنظيميــة في المؤسســة الثقافيــة العربيــة لبنــاء وتأســيس أنشــطة نوعيــة ســتفرض لاحقــاً ســلطتها الانتقائيــة عــى القــرار التشــكيلي العــربي الطامــح لابتــداع أنشــطة عالميــة ودوليــة، والانخــراط فيهــا لتحقيــق ســمعة حســنة مــن جهــة، ولتــشرع أبوابهــا لاســتقبال النقــاد والمنظريــن والإعلاميــين المتخصصــين في آليــة الإعــلام الثقــافي الغــربي مــن جهــة أخــرى، أســوة بالتظاهــرات الممثلــة في اليابــان وجنــوب شرق آســيا والصــين وســواها، عــى مســتويات التلقــي المختلفــة.
“إن حــال المبدعــين في بلادنــا كحــال المفاهيميــين الذيــن رأوا أن مجــرد محاولــة تعريــف الفــن المفاهيمــي ســيقود إلى عكــس مــا يُقصــد منــه، وهــذه الفكــرة مــن أهــم البنــى التــي ينطــوي عليهــا هــذا النــوع مــن الفنــون.. قــد يكــون هــذا الفــن فــن الفعــل، لكــن دون أن نحــاول حصـر معنــى الفــن في تعريــف وإنمــا تركــه في فضــاء التســاؤل”.
يعتبر معلاّ أن القيــم الجماليــة والاجتماعيــة التقليديــة لــن تلبــث أن تختفــي تحــت ضربــات العدميــة الحديثــة الصاعــدة، ســيبحث الإنســان عــن نــواة عقلانيــة أخــرى تختلــف عــن النــواة التقليديــة في داخــل (كاوس) العولمــة. ســتلغى المفاهيــم العلميــة وتقــوم مكانهــا مبــادئ جديــدة أكـثـر تطوريــة وفعاليــة، ســيلغي الطــب الجديــد في الاستنســاخ وزرع الأعضــاء، خرافــة الألم والعجــز والشــيخوخة المبكرة، وســتطول الأعــمار ويكــون العلــم ســباقا في إلغــاء قلــق الإنســان، لكــن ذلــك لــن يحقــق حريــة الإنســان. من هنا أهمية سؤال: “كيــف ســيكون الجميــل جميــلاً وقــد ذابــت كل القيــم داخــل الـــ (كاوس) وانهــارت المقاييــس أمــام الصنعية التكنولوجيــة الصاعــدة، وأصبــح الإنســان يــرى المصنــع في منفعتــه العمليــة أكـثـر جــمالاً مــن الرؤيــة داخــل اللوحــة الفنيــة التقليديــة”.
جمالية الانسان المدمَّر
يتحدث معلاّ عن جماليات الانسان المدمَّر الذي يحس بمخاوف تقصيه عن فعل الخلق الفني في ظل النظام البصري الجديد، ومع انتقال الولاء الجمالي من الحنين الى الكائن الى نقد الواقع والمجتمع الحاضر، ويستند في ملاحظته تلك على خبرته العميقة حين تولى مسؤولية إدارة الندوات الدولية المرافقة لبينالي الشارقة ومن ثم المركز العربي للفنون الذي تأسس في الشارقة (منذ العام 1996) على ضوء الحاجة الى مؤسسات تحمي الفن العربي وتوثق له وتدفعه لللمشاركة في المحافل الدولية، بعد عملية الاستبعاد الغربي المتعمّد للمحدثين العرب عن المعارض الدولية. فالتجربة الطليعية للإمارات العربية تطرّق اليها معلاّ قبل ان يعرّج على التجارب العراقية المحدثة والمعاصرة (مع الاخذ بعين الاعتبار الكتابات النقدية للنقاد العراقيين) مع جيل الاحلام والقضايا القومية والرصد المعرفي والتوترات الحسية والبصرية وتجارب الحروب والمنافي حيث علاقة الفن بكبرياء الجمال.
لعلّ الصراع بين الأنسنة والعولمة سيأخذ مداه على مدى الربع الأول من القرن الحالي لتشكل ارتكازات الفكر الانساني بعامة- بحسب معلاّ، فالصــور هــي العــالم.. وعصرنــا يفضــل الصــورة عــى الــشيء، النســخة عــلــى الأصــل، التمثيــل عــى الواقــع، المظهــر عــلى الوجــود. إن الــدور الــذي تلعبــه الصــورة كبديــل حــي للكلمــة، يؤكد التركيــب الخــاص لهــذا الــدور في إقصــاء الإنســان، بجعلــه يعيــش حالــة الحيــاد مــن عالمــه، حيــث يبــدو العــالم بأحداثــه ( القريبــة والبعيــدة) عرضــاً يخاطــب اللــذة أو يقصيهــا، فــكل شيء قابــل للاســتعراض، الحــدث، الخــبر، المــوت، العنــف، الاســتعمار، الجنــس، الجــمال وغيــر ذلــك مــن الثقافــات الجزئيــة.
في لغــة الفــن الجديــدة المتداولــة اليــوم يختلــط الســياسي بــالأدبي، واليومــي باللحظــي، والتعــددي بالــذاتي، والإعلامــي بالإعــلاني، لتنفتــح هــذه اللغــة عــلى فضــاء حامــل للمعرفــة المعلوماتيــة المتناحــرة عــى إبــراز التباينــات الســلطوية والديمقراطية والاســتهلاكية في المؤسســات الجديــدة التــي تتبنــى الأنظمــة الفنيــة البديلــة.