الظاهراتية:(الفينومينولوجيا).. فلسفة أم ماذا؟

إن الفكر الفلسفي إنما يسعى لتحصيل درجات الصّدق أو اليقين الموضوعي، من خلال البرهان على صحة المقدمات التي توصل إلى النّتائج، غير أن البرهان على الرّغم من أنه آتِ من اعتماد الطّرق الاستنباطية، وهي (القياس، والاستقراء، والتّمثيل)، بقي عاجزاً في كثير من الأحيان على إثبات جملة كبيرة من المطالب، لاسيما تلك التي ليس لها تمظهرات وجودية، وهنا يروق للباحث تقديم جردة يبين فيها ذلك الجانب اللّامرئي، الذي لا يحس ولكنه يدرك، كالمطلق والرّوح والنّفس والعقل، والجن والملائكة والشّياطين، وغير ذلك كالصّادر الأول، والعقل الخالص أو العقل الهيولي. كل هذه المسميات لم يكن ينالها الاستدلال بشكل مباشر، وإنما كان إثباتها بغيرها لا بنفسها. فضلاً عن استعمال هذه الغيرية في الكثير من اشتغالات المفاهيم الاعتبارية، كالشّجاعة والمروءة والحب، وكذلك في العديد من (المفاهيم الأولى) كالضّاحك والماشي والنّاظر والمتحدث والصّاهل وغير ذلك، و (المفاهيم الثّانية) كالذّاتي والعرضي والفصل والخاصة والكلي والجزئي والماهية وغير ذلك. فهذه المفاهيم كذلك لم يكن الاستدلال ينالها بشكل مباشر، وإنما يكون بغيرها. غير أنها كمفاهيم أو معطيات للفكر كانت تأخذ حيزاً كبيراً في الاشتغال التّأملي الفلسفي. وهذا يعني أن التّوجه كان منصباً حول الجانب العقلي والحسي على حد سواء، أو لنقل إن الفكر كان مرتبطا بافهوماته الذّهنية بالقدر الذي يرتبط بتمثلاتها الواقعية الخارجية. منذ اللّحظة التي خرجت فيها الافكار المثالية والمادية كتوأمين من رحم الفكر الإنساني، فكما أن السّؤال يطرح حول سرانية هذا الوجود الجسدي، تطرح أسئلة أخرى عن مواد هذا الجسد بما هي مجموعة عناصر لها حيزها الفاعل في دوائر الفكر مثلاً، ثم بعد ذلك توالت مدارس فلسفية عديدة، كالبراجماتية والوجودية والوضعية المنطقية. وكلها بشكل عام لا تتفق على وجود قوى غيبية تحكم قبضتها على هذا العالم، و تتفق على وجود تمظهرات حسية للعالم ذاته. لكن الحال مع الظَاهراتية يبدو انه أمر مختلف، فهل ما قدمناه في الجردة تحسب كلها (ظواهر) عندهم، إذ يجتمع المرئي مع اللّامرئي في حقل واحد تقوم بدراسته الفينومينولوجيا، أم إنها تفرق بين كل جهة وتدرس الواحدة بمعزل عن الأخرى ؟. ولكن قبل الإجابة عن السّؤال، أفضل أن نعرف ما الظَاهرة ؟.

وعندما نقول (ظاهرة)، بغض النّظر عن معنى مفردة (الظَاهرة) المعجمي، فإننا وبكل يقين نتوجه صوب المرئي، من دون ما قدمناه من جردة أولية لما هو ليس بمرئي. ولاسيما أن الظَاهر يعني في ابسط تعريفاته أنه البين أو الواضح أو المتعين أو المكشوف وغير ذلك. وقد يتصور بعضهم أن هذا يعطي مفهوماً واضحاً لفكرة اشتغال الفينومينولوجيا وتوجهها إلى ما هو حسي بوصفه المتعين أو (المرئي)، فالأمر ليس كذلك. لاسيما أن الظَاهرة هي: (ما يمكن إدراكه أو الشّعور به، وما يعرف عن طريق الملاحظة والتّجربة، أي النّظر إلى ظواهر الأشياء من دون النّظر إلى حقيقتها وفي ذاتها)[1]، وان كنت أرى في استعمال لفظة (إدراكه) ثمة نوع من الاعمام الذي يجعل من مصاديق جردة (اللّامرئي) التي قدمتها داخلة في حدها. فليس كل ما يمكن إدراكه هو ظاهرة. كما علينا التّفريق بين الظَاهرة وبين من تنتج عنهم الظَاهرة ذاتها لأنهم غيرها.

أيعني هذا أن الظَاهرة الخارجية التي تقع في دائرة العياني هي التي تشكل موضوع الفينومينولوجيا؟، أم ماذا؟. يذكر الدّكتور (صلاح قنصوة) أن “الفينومينولوجيا هي علم (الظَواهر). وسائر العلوم كما هو معلوم منذ زمن قديم تعالج الظَواهر (…) غير أن الأمر مختلف في كلمة (ظاهرة) عندما تستخدم في الفينومينولوجيا، بقدر اختلاف ما تحمله من معان”[2]، وهذا القول يفصح عن وجود أكثر من استعمال لمصطلح الفينومينولوجيا أو الظَاهراتية، “والحقيقة أن الفينومينولوجيا ليست مذهباً أو فلسفة بعينها، وإنما هي في المقام الأول اتجاه أو منهج، وكل ما هنالك بعد ذلك هو فلسفات فينومينولوجية، اعني تطبيقات فينومينولوجية، فليس هناك في الواقع فلسفة بعينها يمكن أن نشير إليها قائلين: (هذه هي الفلسفة الفينومينولوجية !). وإذا استخدم احد تعبيرا كهذا، فإننا سوف نسأله على الفور: أي فلسفة تقصد ؟”[3]، وعلى ما في هذا القول من ملاحظات فكرية تخصني، أحياناً مؤيدة وأحياناً رافضة، إلا أن هذا القول فتح الفينومينولوجيا لتكون اعم حتى من علم (القواعد الفكرية العامة)، بل وأكثر، من خلال وصف بعض الواصفين لها في أنها اتجاه فكري أو منهج تحليلي، تحديداً وان فهم الفينومينولوجيا أدائياً مرتبط (بوصف) مجرد للظاهرة الكلي. و يعرف المتطلعون أن (هوسرل) دعا “للعودة إلى الأشياء ذاتها، بمعنى أن يكون الوصف الفلسفي لمعطيات الشّعور بداية لكل تفلسف”[4]. وكأن الأشياء الخارجية التي ينالها الوصف والتي تكون بداية لكل تفلسف هي ما يمثل الظَاهرة عند الفينومينولوجيين، لكن ليست الأشياء بمفردها مجردة عن الوصف، فقد حاول هوسرل أن يبين الفينومينولوجيا معرفا إياها بأنها: “علم الوصف، أو النّظرية الوصفية للمعرفة”[5]. فأي فلسفات متعددة يتساءل عنها (سعيد توفيق) انه نوع من الغلو. وهنا ألا يحق لنا أن نتساءل عن هذه المعرفة الوصفية، وهل هي فعلاً من خصوصيات الفينومينولوجيا، أم هي من خصوصيات معارف وعلوم اسبق؟ كالتّاريخ بمعناه الحكائي السّردي والجغرافيا بمعناها الطّوبغرافي الواصف، والرّحلات الاستكشافية المدونة المعروفة بأدب الرّحلات، وغير ذلك. ألم تخبرنا المعرفة المثيودولوجية (Methodology) بوجود المنهج الوصفي بمعناه الإثنوغرافي: كما في علم الإنسان الوصفي، وهذه كلها مؤشرات سابقة لاشتغال الفينومينولوجيا.

فلماذا إذاً ارتبط هذا العنوان (الفينومينولوجيا) بهوسرل على أساس الوصف، ولماذا هذا الشّيوع الذي ناله هذا اللّون من الطّرح الفكري، ولماذا هذه الهالة الكبيرة التي منحت له؟. طالما أن النّظام الأدائي له كان قديماً ومتداولاً. وفي ما لو غضضنا الطّرف عن هذه الفكرة فأن فكرة أخرى تتعكز عليها الفينومينولوجيا، وهي تتعلق بالأفكار الأولى لظهور الفينومينولوجيا ذاتها، لاسيما تلك التي ترتبط بالماهيات ورفض الوقائع، وهي هنا تحاول نقد العلم، لقد أشار (المسكيني) في إحدى مقالاته إلى هذه الفكرة قائلا: “لا أحد بإمكانه أن يدخل إلى نطاق الفلسفة الخالصّة، ويشهد ظاهرات الوعي المحض، إلاّ بقدر ما يغيّر أو يكون قد غيّر من نفسه: بنقلها من عالم الطّبيعة إلى عالم الوعي. والمرور من الموقف الطّبيعي إلى الموقف الظَاهرياتي. إنّ الفلسفة، حسب هوسرل، لا تكون خالصة إلا إذا (غيّرت أفق فكرنا) على نحو ينقله من نطاق دراسة (الوقائع) (مثل علوم الطّبيعة أو النّفس) إلى البحث في (الماهيات) التي تشكّل معنى الظَاهرات في وعينا المحض (…) وربما بهذا المعنى فقط يمكن أن يُقال عن الفلسفة إنّها عمل استثنائي”[6]. وأكد هذا المطلب الباحث سعيد توفيق كذلك بقوله: “تريد الفينومينولوجيا أن تبدأ مما يتركه العلم بلا توضيح، أي مما ينظر إليه العلم على انه وقائع جاهزة، وبديهيات واضحة بذاتها، تتأسس فوقها حقائق ومعارف. إنها تريد أن تبدأ من الخبرة المباشرة بالعالم والأشياء، أي من معنى أو ماهية الأشياء كما تبدو في خبرتي، وليس باعتبارها وقائع مستقلة عني. هذه المنطقة يتجاهلها العلم؛ وبالتّالي فأنه يتجاهل الإنسان، وفقد دلالتّه الإنسانية”[7]. وهنا أصبح لدينا قدر كاف بأن الظَاهراتية تتصدى في عملية الوصف أو الظَاهرة الموصوفة كل من الشّيء الخارجي وماهيته الذّهنية، فهما عندهم أمر واحد.

وهنا اطرح تساؤلاً آخر، في مقابل هذه الفكرة، ترى ما الذي كان ومازال يفعله علم المنطق؟، وأين غابت الدّراسات والبحوث الماهوية؟، ألم يكن البحث في (الماهية) واحداً من مهام الفلسفة ومنذ القدم، أم للماهية في الطّرح الفينومينولوجي تفسير آخر، وهنا سنقف عاجزين أمام فهم الاصطلاح، ولاسيما أنه يجب أن يكون منضبطا في التّداول العلمي، وإلا فالموضوع سيركب مركب الأهواء والأمزجة في التّفسير. لا شك في أن الجميع يعرف بأن (الماهيات) إنما هي الأشياء الموجودة في الخارج، غير أنها منظور إليها من جهة علمية منطقية صرفة، فهي الواقعة في جواب ما هو، والجواب إما أن يكون بالحد التّام أو النّاقص، وإما أن يكون بالرّسم التّام أو النّاقص، وهي أي الماهيات، من تمثلات السّلسلة التّراتبية التي يعتليها الجوهر أو جنس الأجناس. وهذه الأفكار إنما هي أفكار جاءت من التّفاعل مع الأشياء والتّفكر بها، ومن الخبرة المباشرة بالعالم بل وبتمظهرات الوجود. فما الجديد في هذه الفكرة إذاً مما تميزت به الفينومينولوجيا من غيرها، وفضلا عن ذلك هل توجد هناك فعلاً خبرة إلا وقد جاءت من خلال التّفاعل المباشر بالعالم وبالأشياء. وهل ثمة طرح فلسفي في عموم الفلسفة جاء مستقلاً عن خبرة المُفكر الطّارح أيّاً كان، إن في النّص المقتبس الأخير ثمة مغالطة فكرية تعظم الهالة التي نالتها الظَاهراتية بشكل كبير.

 

ترى هل نحتاج إلى مزيد من الإمعان لنعرف أن الفكر لا يستطيع التّفكير إلا في (شيء ما)، وليس في (العدم). ألم تكن مسيرة المعرفة بشكلها الشّمولي تتبنى دراسة الأشياء، سواء أكان لها تمثل مادي مرئي أم كانت ضمن ما قدمناه من جردة تخص اللّامرئي في ما سبق. حتى يمكن للباحث الاستشهاد بالفلاح أو بالعامل الذي يراقب ناتج اشتغالاته، ما الذي دفع إذاً على سبيل المثال (مرلوبونتي) وكأنه يبغي حفر الخطاطة الجديدة التي ستغير التّاريخ وكأن أحداً لم ينظر إلى الأشياء بتمعن من قبله، فهو يقول:” إذا نجحنا في وصف الوصول إلى الأشياء ذاتها، فأن ذلك لن يكون إلا من خلال هذه الكمدة وهذا العمق اللّذان لا يتوقفان أبداً: ليس ثمة شيء يمكن ملاحظته بالتّمام، ولا وجود لمراقبةٍ للشيء تكون دون ثغرة وتكون تامة، فنحن لا ننتظر لنقول إن الشّيء هناك لانا لاحضناه، بل على العكس من ذلك، مظهره كشيء هو الذي يقنعنا في الحال أنه قد يكون من الممكن ملاحظته”[8]. انه أمر بالغ في بداهته، بل وهو ساذج في توجهه، أنا حتى هذه اللّحظة لم أجد اشتغالاً علمياً بمستوى يحقق أن تكون (الظَاهراتية) فلسفة، ناهيك عمّا في هذا النّص الأخير من أفكار ارسطية، وما أود التّركيز عليه بل وتأكيده في الوقت ذاته، هو عدم الرّكون بسهولة إلى تيارات فكرية دفع بها الإعلام كثيرا لتبدو وكأنها فتقاً مزق ثوب التّاريخ الفكري، أو كأنها فتح جديد لتغيير شرائع العقل، ويبقى السّؤال لماذا الفينومينولوجيا ؟.

يشير (هوسرل) إلى نمط من الأزمة نشأت بين العلوم وبين الإنسان الأوروبي؛ لان العلم ينظر إلى الأشياء نظرة استقلالية، في حين يحاول الاشتغال الفينومينولوجي أن يعيد النّظر بين الأشياء والذّات، وانه يجب أن ينظر إليها من الذّات مباشرة[9]. وذلك بأن تصف وتحلل ماهيات الموضوعات والمفاهيم التي تفرضها العلوم بوصفها وقائع مؤسسة جاهزة. مثل افتراض الشّيء المادي والجسم، والبدن والانا، فنقده لا يقتصر على العلوم الطّبيعية وحدها، وإنما يمتد إلى الرّياضيات أيضاً، وحجته في ذلك “أن الرّياضيات إنما تقدم لنا مفاهيم أو تعريفات صورية مجردة، (مثل: الجسم والسّطح في الهندسة) مستخلصة عن طريق التّجريب والاستلال؛ ولذلك فان ماهياتها تكون ماهيات تجريبية (experiential essences)، أما الماهيات الفينومينولوجية فهي ماهيات عيانية (concrete essences)، مستمدة من الحدس المباشر، وليس هناك في إدراك ووصف وتحليل هذه الماهيات أية عملية استدلالية، فكل تنظير استدلالي إنما يستبعد من مجال الفينومينولوجيا”[10] !!. وهنا يحاول هوسرل التّأكيد على مبدأ (الماهيات لا الوقائع)، وهو يحصر الأمر في الماهيات العيانية الخارجية، أي في حقل المرئي فقط، وأقصى حقل اللّامرئي، وهذا يعني أن الإشكال موجود في الرّؤية الهوسرلية ذاتها، إنها رؤية متخبطة، كيف جاز لعلم أن يكون علماً وهو خارج الاستدلال؟ أي منطق هذا؟. فضلاً عن أن (الجسم) أو (السّطح)، إنما هو (شيء) تماماً كالمكعب مثلاً، فصورة الجسم أو السّطح في الرّياضيات ليست هي صورة مجردة وإنما متشكلة ومرئية، أي هي مما يستدل بها بذاتها وليس بغيرها، كما في المسائل غير المرئية. إن صورة الجسم سواء أكانت خارجية أم ذهنية، هي من قبيل ممكن الوجود، وليس من قبيل (العدم)، أو الـ(لا وجود) له؛ ليس لأنها فقط آتية من التّصور الرّياضياتي، فتكون قابلة للإمكان؛ وإنما لأن الرّياضيات بالأساس أخذت صورتها من الأشياء الخارجية بشكل مسبق، فهي كصورة رياضية عن الجسم، إنما جاءت من تلك المشاهدات التي مكنتنا لأن يكون لنا فهمنا الخاص عن الجسم، وهي بالنّتيجة حاصل تحصيل المرئي، فهي ماهية عيانية إذاً، سواء أكانت صورة بالقوة، أم صورة بالفعل، كما أن النّص السّابق حدد ملامح الاشتغال الفينومينولوجي (بالإدراك والوصف والتّحليل) أي أن الإدراك والوصف والتّحليل هي المنطلقات الأدائية للفينومينولوجيا، وان كان هو كنص يبعدها عن وصفها بأنها علم أو حتى فلسفة، على الرّغم من محاولات مجمل مفكريها لان تكون الفينومينولوجيا كذلك؛ لان منطق العلم والفلسفة يستحيل أن يرتدي ثوباً غير ثوب الاستدلال، ولا أتصور أن يكون موضوع حضور الاستدلال في المباني الفكرية أمراً يحتاج إلى دليل.

وهنا أود أن أتوجه صوب العلم الذي جاء به هوسرل بوصفه العلم الأوحد الذي سيحل الإشكال الفكري في علم النّفس، وهو علم النّفس الفينومينولوجي أو الماهوي (eidetic psychology)، الذي يؤكد فيه هوسرل هذه الجدة، بقوله:” وقد جاء مع هذه الفلسفة الفينومينولوجية نظام سيكولوجي جديد مواز لها في المنهج والمضمون، هو علم النّفس القبلي الخالص أو الفينومينولوجي، الذي أثار دعواه الإصلاحية بأنه هو القاعدة المنهجية الأساسية التي يمكن أن يتأسس عليها وحدها علم نفس تجريبي صارم “[11]، ولكن هذه الصّرامة أهي كذلك من دون استدلال أم من دون استعمال البراهين العقلية؟، وهذه مغالطة جديدة. غير أنها قامت على فكرة مفادها أن هناك فرقاً بين مفهوم التّأمل الباطني الانعكاسي (reflection) في الفينومينولوجيا، ومفهوم الاستبطان (introspection) في علم النّفس بمعناه التّقليدي. فهذا الأخير إنما ينظر إلى الاستبطان من خلال ملاحظة ما يحدث بداخله إزاء واقعة ما. أما التّأمل الانعكاسي، فهو وصف لماهية أو معنى تلك الخبرات القصدية للوعي، فأي تقدم أحدث في المجال؟.

هذا في ما يتعلق بالبداية الأولى التي ناقشنا فيها فكرة أو مفهوم (الظَاهرة) والماهية، في الفكر الفينومينولوجي، وهناك فكرة (الأشياء)، التي تعكزت عليها الفينومينولوجيا كثيراً، في مقابل التّصورات، الشّيء في ذاته، أو (الاسطقس)، في الفكر الفلسفي القديم، أو(النّومين) في الفكر الفلسفي الحديث، هذا الذي لم يختلف عليه اثنان أبداً، إلا في وضع حدٍّ له، تماماً كما الوجود الذي لا حدَّ له، وكيف يحدُّ بغيره، فهل هناك ما هو أبين منه، أو أوضح منه فيحدُّ بغيره، وعلى الرّغم من ذلك يشير هوسرل إلى نوع جديد في ارتباط المعرفة بالأشياء، بحسب ادعائه -إذ ليس الأمر كذلك- يرتكز على عودة الفكر إلى نقطة الصّفر أو البداية من خلال الرّجوع إلى الأشياء ذاتها، مستبعدين كل تصوراتنا السّابقة تلك التي منحتنا إياها المعرفة، وعلى مرِّ وجودها ” لأننا نكتشف معنى أو ماهية الظَواهر في الظَواهر ذاتها، فالظَواهر ليست مجرد مظاهر، وإنما تنطوي على معناها في باطنها، واكتشاف ماهية الظَواهر، يكون عن طريق فعل التّأمل الانعكاسي لخبراتنا المتجهة نحو هذه الظَواهر، ذلك مبدأ فينومينولوجي هام كان له أثره في التّناول الفينومينولوجي للخبرة الجمالية” [12]، وعلى الرّغم من أن هذا النّص فيه ما فيه من الصّحة والعافية، إلا انه كاشتغال فكري أدائي، تعتمد عليه المؤسسة الفينومينولوجية ليس بجديد أبداً؛ لان أقدم المعاجم في العالم كانت تفعل هذا الأمر بعينه، فالاشتغال الدّلالي اشتغال قديم، فمنذ متى نحن نحصل على معنى ما، من شيء يجاور الشّيء المراد منه تحصيل المعنى، فمن البديهي أن نكتشف معنى الشّيء في الشّيء ذاته، وليس من شيء آخر غيره، لكن هذا الأمر مرتبط كذلك بالمرئي أو بالأشياء المشاهدة. وكي نستفيض بالأمر أكثر سنقوم بعرض الظَاهراتية بطريقة أخرى.

تعدُّ الظَاهراتية واحدة من الأفكار الأساسية في أوروبا، والعديد من المفكرين المعاصرين يولونها اهتماماً كبيراً، ويحيطونها بهالةٍ عظيمةٍ، فهم يجتمعون حولها ويركنون إليها لسببٍ رئيس وواضح؛ لتخليها عن أي تصورات معرفية سابقة قامت العقول بإلحاقها على أي فكرة، مهما كانت، فالفينومينولوجيا تنظر إلى الأشياء بشكل مجرد، لتصل إلى ماهياتها، بحسب تعبير هوسرل[13]، وهي بهذا تمثل عتبة جيدة لإزاحة (المرجع) بعد تلك التي أسس لها (نيتشه) في مساره العدمي، والتي ستنمو بشكل كبير لتكون قاعدة تبغي تهميش (المرسل أو الباث أو الفنان) بمنطق إزاحة خفي أو غير معلن، كما فعلت ذلك فلسفات موت اللّه، وموت الإنسان، وموت الطّبيعة، وغير ذلك. فهي لهذا الأمر تجذب الكثيرين، تحديدا أولئك الذين يبغون التّخلص من كل ما هو تاريخي في المعرفة والأخلاق والاجتماع والسّياسة وغير ذلك، “لان النّظر بمعزل عن أي اعتقاد مسبق إلى الأشياء سيمنح الأشياء أن تبدو جديدة، وكأننا نكتشفها للتو”[14].

والمتطلع على أفكار الظَاهراتيين يدرك جيداً أنهم يبغون دراسة العالم بوصفه ظواهر، غير أنهم في الوقت ذاته لم يقوموا بتجربة طروحاتهم بما وضعوه من قيد أو شرط في تلقي الظَواهر، بما هي هي مجردة عن أي فهم مسبق، وإنما كانوا يتقصون ما قدمه الفكر الفلسفي ليشبعوه نقداً، وهم بصنيعهم هذا أضاعوا دهشة الجدة التي ينادون بها، وساعد ذلك التّخبط الواضح في مبانيهم الفكرية، حتى أن الكثير من روادها يقوم بتصحيح مسارات من سبقه، كما فعل ذلك (هيدجر)، مع أستاذه (هوسرل)، وكأن ما يقودهم إلى فهم الوجود هو نوع من الرّؤية الذّاتية التي تميز كل واحد منهم، والحقيقة أنهم مغالون جداً في توجهاتهم وطروحاتهم على الأقل في وصفها بأنها تمثل الحل الموضوعي الحاسم بحسب وصف روادها لها.

 

الظَاهراتيون يتصدون إلى معالجة الأفكار الفلسفية من خلال الوصف المتعلق بتجاربنا الإنسانية، ليثبتوا أساسهم الذي قامت عليه الظَاهراتية ذاتها، فهي فلسفة الوصف والخبرة التّحليلية، التي تنتجها الذّات بنوع من الوحدة ما بين الذّات والشّيء الذي تقوم بدراسته، “بحيث يكون في وسع أي واحد أن ينظر إلى الأشياء متفاعلاً معها على أنها تمثل نوعاً من الوجود الذي يمكننا أن نضفي عليه دلالاتنا الفكرية، لنحقق نوعاً من التّفاعل في ما بيننا وبين الأشياء”[15]، والضّابط هنا هو خبرة الفرد في تعامله مع (الوقائع): التي تمثل الوجود، والتي سيرفضها الظَاهراتيون لاحقاً؛ على اعتبار أنها وجدت جاهزة، وهي مما تركها أو خلفها العلم الذي تعامل مع الأشياء بمعزل عن الذّات.[16] لأنه يقوم بالتّجربة تبعاً إلى قوانينه الصّارمة، وهو حينها ليس سوى (وسيط منفذ) بين قوانينه ونتائج علمه التي حولت الوجود إلى نوع من المعارف المستقلة عن الخبرة، حتى شكل هذا الاستقلال أزمة معرفية على حد قول هوسرل ” فأزمة العلم أصبحت أكثر عمقا ووضوحا، عندما حاولت العلوم الإنسانية تطبيق منهج العلوم الطّبيعية، وتحولت هي الأخرى إلى علوم للوقائع، والأزمة هنا أعمق؛ لأنه إذا كانت العلوم الطّبيعية قد استبعدت الإنسان من الطّبيعة، وجعلت منها مجرد وقائع مستقلة عن خبرته، فان العلوم الإنسانية جعلت الإنسان مجرد طبيعة، مجرد واقعة من وقائعها”[17]، وأنا هنا لم أدرك مصاديق هذه العلوم التي وردت في النّص، إذ ليس ثمة معرفة ما جعلت من الإنسان مستبعداً عن وجوده الطّبيعي، فضلاً عن كونه مجرد طبيعة، الموقف يحتاج إلى بيان وتحليل ونقد، لكن المجال لا يسع لذلك، والمهم أن الظَاهراتية تسعى إلى تكوين خطابها الذي يجيب على تساؤلاتها، لكن من دون أن تستدل أو تستخدم الاستدلال؛ لان الاستدلال مرفوض في اشتغالاتها كما تقدم!، ولكن كيف يكون ذلك؟. ” لنأخذ مثالا أثيرا لدى هوسرل: شيء متموضع في الفضاء. أيا كانت طبيعة هذا الشّيء، فإن تجربته ستخضع لبعض القيود. صحيح أنها قيود غير مرئية، منذ الوهلة الأولى، لكنها قابلة لأن تدرك إذا ما أعملت فيها فكري قليلا: إذ لا يمكن رؤية شيء متموضع في الفضاء في كليته دفعة واحدة، وإنما يجب أن يدرك ضمن رؤيات متعددة متتالية. كما يجب أن تكون هذه الرّؤيات منسجمة. وفي وسع كل رؤية على حدة أن تصحح كل الرّؤيات الأخرى. هكذا يوضح تحليل من هذا القبيل أن على التّجربة، كيفما تكون تجربة لشيء فضائي، أن تمتلك هذه البنية الواضحة. من ثم فإن هذه البنية معطاة قبلاً. وبمعزل عنها، أو بدونها، لن نكون أمام شيء فضائي. ومن جهة أخرى فإننا، بوصفنا لتجربة شيء فضائي في حدها الأدنى، نكون قد فهمنا معنى (الكينونة في الفضاء). ما دام أن الكينونة في الفضاء تعني، بشكل أدق، قابليته أن يكون موضوع تجربة للشكل التي أشرنا إليها لتونا” [18]. وخلاصة هذا المثال هي النّظر إلى الأشياء وان كانت متصورة، وبمعزل عن كل قيودنا لفهم الظَاهرة التي تحيط بنا.

وكأنها تحاول سلخ الإنسان من كل ما يعرف، وتدعوه للبدء من جديد، أو هي تحاول أن تجعل من التّفكر في الأشياء غير مؤدلج ولا هو منتمٍ لأي تصورات أولية، حتى وان كانت تمثل البديهي، أو الذي لا يحتاج إلى برهان، ففي المثال السّابق، وعلى وفق منطق الفيزياء، يستحيل النّظر إلى الشّيء معلقاً في الفضاء، ما دام هناك فعل للجاذبية، غير انه يدعو للتخلي عن هذه التّصورات العلمية، بغية الوصول إلى المفهوم الذي يحدد (الكينونة في الفضاء)، وهكذا يتعامل الظَاهراتيون بشكل عام مع أي شيء، ولعل مثال (الحذاء) في لوحة فان كوخ لـ(هيدجر)، فيه تأكيد آخر للمطلب. فالفينومينولوجيا من جهة أخرى تسعى لإقامة قطيعة معرفية: إبستمولوجية. ” الظَاهراتية تشكل تيارًا فلسفيًا قام بقطيعة إبستمولوجية عن الفكر السّائد في القرن التّاسع عشر، أضف إلى ذلك أنَّ الظَاهراتية، باعتبارها منهجًا لوصف ما هو معطى، تبتعد عن عمل أي تقييم محاولة الوصول بذلك إلى أكبر قدر ممكن من الموضوعية “.[19] وهنا تبدو كمن يطالب بالخبرة لكن من دون الخبرة ذاتها، وعلى ما في هذه الدّعوى من سفسطة، فأنها متوافقة مع رد الفعل النّفسي ذاك الذي حمله الدّادائيون في مطالبتهم لإحراق المكتبات والتّخلي عن التّاريخ. أما كان الأجدر إذاً أن يتخلى هوسرل وغيره ممن تبعه أن يتخلون عن اللّغة ؟، أليست اللّغة وقائع جاهزة، أنتجها التّأثيل واشتغالات علم (الاتيمولوجيا) عبر جهود مضنية وطاعنة في رجوعها نحو بدايتها التي حيرت الاركيولوجيين حتى هذه اللّحظة، لماذا استعمل هوسرل لفظة (المتموضع، والفضاء، والكينونة) ألم تكن هذه الألفاظ وقائع ومعطيات حقول معرفية، على الأقل بحسب اشتغالات المفكر الـ(نمساوي) الأصل الـ(بريطاني) الجنسية (فتجنشتاين:Ludwig Wittgenstein) (1889 –1951)[20]. 

إلا أنهم ومع ذلك يصفون اشتغالهم بالمتعالي أو الفوقي (transcendentally)، والحقيقة أنا لا اعرف ما المراد من هذا التّعالي. هل هو مطلب حتمي الحضور كما هو المتعالي (الكانطي)، الذي يريد به إثبات كيفية انتقال الصّورة من المعرفة السّطحية الحسية إلى المعرفية المجردة التي تتعالى في مراتبها ومنازلها إلى أن تتحد مع المطلق الذي يختزن في جوهره الحقيقة. أم لأنه عند الظَاهراتيين يؤسس قطيعة مع الوقائع وتقريرات العلم فيكون كذلك. ولا شك في أن ما تقدم ليس كافياً لنفهم الظَاهراتية ولو بشكلها الميسر أو السّطحي، غير أننا وبناء على ما تقدم يمكننا النّظر إلى الظَاهراتية على أنها: ” علم وصف الظَاهرة وصفاًمستقلاً عن الوسائط المادية التّجريبية، إذ يعتمد على تحليل الظَاهرة تحليلاً مباشراً، مبنياً علي القصدية في الشّعور، مرتكزاً علىالتّتالي في عملية التّحليل، كما أنه يتحدد بدور الشّعور المحض أو الخالص (PHENOMENOLOGY OF MIND) “[21] مجرداً عن كل وقائع قبلية، وهذا ممتنع بطبيعة الحال بل وهو فاسد بالاستدلال العقلي.

المصادر.
=======
[1] . هتشنسون، معجم الأفكار والأعلام، ت: خليل راشد الجيّوسي، دار الفارابي، ط 1، بيروت – لبنان، 2007. ص 299.
[2]. د. صلاح قنصوة، الموضوعية في العلوم الإنسانية، دار التّنوير، بيروت، 2007، ص 200، 201.
[3]. سعيد توفيق، الخبرة الجمالية – دراسة في فلسفة الظَاهراتية، مصدر سابق، ص 19.
[4]. زكريا إبراهيم، دراسات في الفلسفة المعاصرة، مكتبة مصر، ج 1، القاهرة، 1968. ص 363-364.
[5]. د. رونز داجوبرت، فلسفة القرن العشرين- مجموعة مقالات في المذاهب الفلسفية المعاصرة، ت: عثمان نوب، مراجعة: د. زكي نجيب محمود، سجل العرب، القاهرة، 1963، ص 123.
[6]. فتحي المسكيني، الفلسفة استثناء تأسيسي لوعي آخر، الحوار المتمدن- العدد: (3733)، بتاريخ 2012 / 5 / 20. تحت هذا الرّابط(http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=308436).
[7]. سعيد توفيق، الخبرة الجمالية – دراسة في فلسفة الظَاهراتية، مصدر سابق، ص 21.
[8]. موريس مرلوبونتي، المرئي واللّامرئي، ت: د. عبد العزيز العبادي، المنظمة العربية للترجمة والنّشر، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، بيروت، 2008، ص 147.
[9]. ينظر: 
– Edmund Husserl, Philosophy and the Crisis of European Man, in Phenomenology and the Crisis of Philosofy, translated with an introduction by Qucntin lauer, 1965, p.149
[10]. سعيد توفيق، الخبرة الجمالية – دراسة في فلسفة الظَاهراتية، مصدر سابق، ص 20.
[11]. المصدر السّابق، ص 22.
[12]. المصدر السّابق، ص 24.
[13].- Dan Zahavi, Husserl s Phenomenology, Cultural Memory in the Present, Stanford University Press, 2002. p 46.
[14]. I.B.D. p 33
[15]. – Muhammad Kamal, From Essence to Being: The Philosophy of Mulla Sadra and Martin Heidegger, ICAS Press, 2010. p 53.
[16]. سعيد توفيق، الخبرة الجمالية – دراسة في فلسفة الظَاهراتية، مصدر سابق، ص 20
[17]. المصدر السّابق والصّفحة ذاتها.
[18]. فيليب هونيمان، الظَاهراتية، ت: حسن الطّالب، ملف الكتروني. (PDF).
[19]. فراس سراقبي، الفينومينولوجيا ونظرية المعرفة، على هذا الرّابط: (http://maaber.50megs.com/issue_january11/epistemology.htm)
[20]. ينظر للمزيد عن هذا الفيلسوف: (http://en.wikipedia.org/wiki/Ludwig_Wittgenstein).
[21]. عبد القادر بوعرفة، المنهج الفينومينولوجي، مدونه خاصة بسعود سالم: في في 30 مايو 2008. على هذا الرّابط: (http://saoudsalem.maktoobblog.com)

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *